لم يكن من الصعب علي الجيش المصري أن يطيح في أية لحظة يريدها بالرئيس السابق
.. كان ذلك أمرا ممكنا ومتاحا في لغة الجيوش وصراعاتها السياسية.. ولم يكن من الصعب علي الجيش نفسه أن يجهض ثورة يناير حتي لو دفع الجميع الثمن.. هذه حقائق يدركها عقلاء هذا الوطن فقد كان من السهل إسقاط رئيس الدولة ومحاصرة الثورة والوصول إلي سلطة الحكم.. ولكننا جميعا نعلم أنه في لحظة ما كان قرار الجيش أن يتخلي عن رأس النظام وأن يطالبه بالتنحي وان يأخذ المبادرة ويقرر الانضمام إلي ثورة الشعب.. لا اعتقد أن هناك قوة فرضت علي الجيش أن يتخذ هذا الموقف ولا أعتقد أننا كشعب يمكن أن نتنكر لهذا الموقف في أية لحظة لأن مثل هذه المواقف لا تسقط من ذاكرة الشعوب..
علي الجانب الآخر فإن العلاقة بين مصر وجيشها كانت دائما محل فخر واعتزاز ولا توجد بينهما صفحات اتسمت بالجحود.. لقد بنت مصر هذا الجيش علي عينها ولم تبخل عليه بشيء طوال تاريخها بل انها في أحيان كثيرة ربطت الأحزمة علي البطون لكي توفر له مصادر الدعم والحماية.. وفي المقابل فإن هذا الجيش ظل وفيا علي عهده في الدفاع عن هذا الوطن.. في الأيام الأولي للثورة سادت روح من التواصل والود بين الشعب وجيشه.. وحين هبطت قوات الجيش إلي ميدان التحرير تنفس المصريون الهواء وشعروا بالأمان في ظل جيشهم العظيم..
كانت هناك وعود اختلفت ظروفها وتعهدات تأجلت بعض الوقت.. وكان هناك إحساس يراود البعض أحيانا أن الجيش لم يفرط في ولاء قديم لقائده رغم كل الضغوط الشعبية التي استسلم لها.. وأن هناك تباطؤا شديدا في حسم كثير من القضايا خاصة ما يتعلق بالأموال الهاربة.. وبدأت الهواجس تتسرب إلي العلاقة بين الشعب والمجلس العسكري وساعد علي اتساع هذه الهواجس مجموعة أسباب تضخمت مع الوقت ووجدت من يشجعها خاصة في أجهزة الإعلام وفلول العهد السابق التي كانت تحاول دائما أن تفسد هذه العلاقة بين شعب ثار وجيش قرر أن يحمي ثورته..
كان من أخطر أسباب هذه الهواجس الانقسام في صفوف النخبة بعد رحيل رأس النظام عن السلطة هنا بدأت رحلة الغنائم وانقسمت القوي السياسية علي بعضها وأصبحت الأحزاب التقليدية في جانب. والإسلاميون في جانب.. وقوي الشباب والثوار في جانب آخر.. وكان الاستفتاء أول أسباب الخلاف بين هذه القوي وانعكس بالضرورة علي الموقف من المجلس العسكري اعتقادا بأنه ساند جماعة الاخوان المسلمين.. والحقيقة أن الاخوان كقوة سياسية في الشارع المصري لم يكونوا في حاجة إلي الدعم فقد انطلقوا من البداية يسبقهم رصيد شعبي جارف كنا جميعا نعرفه ونراه سواء من اتفقوا معهم أو اختلفوا عليهم.. وهنا كانت بداية التشكيك في نوايا المجلس العسكري وعلاقته بالاخوان المسلمين..
واتسعت هذه الدائرة وكبرت وأدت إلي تغيرات حادة في العلاقة بين القوي السياسية والمجلس العسكري.. ولاشك أن الاخوان استفادوا من ذلك التغير ووصلت العلاقة إلي أقصي درجاتها توترا حين اكتسح الإسلاميون الانتخابات التشريعية.. وخرجت القوي السياسية من هذه الهزيمة لتصب غضبها علي المجلس العسكري متهمة اياه بأنه ساند الاخوان المسلمين رغم أن الحقيقة المؤكدة أن القوي السياسية خسرت المعركة بسبب قصورها الواضح وبعدها عن الشارع..
اختلطت أوراق القوي السياسية التي خرجت من السباق وكانت مكاسبها محدودة أو لم تخرج بشيء علي الإطلاق ومنها شباب الثوار.. هنا بدأت المعركة تزداد عنفا بين شباب الثوار والمجلس العسكري واتفقت مصالح هذه القوي علي رحيل المجلس العسكري وتسليم السلطة للمدنيين رغم أن هناك عدة محاذير كان ينبغي أن تراعي أمام هذه المطالب:
< أن الجيش المصري هو المؤسسة الوحيدة التي بقيت متماسكة في مؤسسات الدولة خاصة بعد انهيار جهاز الأمن في أحداث الثورة وخروجه بخسائر رهيبة في كل شيء.
< أن الجيش قد وعد بتسليم السلطة للمدنيين وحدد أوقاتا لذلك بما فيها فتح باب الترشح لرئاسة الجمهورية في 10 مارس القادم وتشكيل لجنة إعداد الدستور وإجراء الانتخابات التشريعية التي انتهت بإعلان قيام مجلس الشعب الجديد أول ثمار الثورة..
< هناك أخطاء كثيرة وقع فيها المجلس العسكري أمام ممارسات سياسية كانت جديدة تماما عليه في ظل تهميش متعمد لكل مؤسسات الدولة في ظل النظام السابق ولكن المؤكد أن النوايا كانت صادقة وطيبة وإذا ثبت غير ذلك فإن الزمن قادر علي أن يكشف حقيقة المواقف.. لا نستطيع أن نتجاهل هنا عمليات التأجيل في المحاكمات أو سجون السبعة نجوم بطائراتها وتكاليفها المهولة.. أو أن نتجاهل الإهمال الشديد في قضية الأموال الهاربة أو حقوق الشهداء أو كشف الحقائق أمام الشعب..
لقد كانت المحاكمات وما جاء علي لسان الدفاع عن الرئيس السابق ورموز حكمه أدلة اتهام جديدة كانت تحتاج إلي محاكمات أخري.. في أقاويل الدفاع اتهامات صارخة لأجهزة حساسة منها الجيش والمخابرات والنيابة العامة خاصة ما يتعلق بإخفاء الأدلة وكان ينبغي الرد علي هذه الاتهامات في بيانات رسمية من مؤسسات الدولة فقد تركت هذه الاتهامات آثارا سيئة في الشارع المصري أقلها خطورة أن هناك تواطؤا ما بين هذه المؤسسات..
لقد زادت هذه المواقف التي بدأت مجرد هواجس بين المجلس العسكري وقوي الثورة وانتهت بمطالبات صريحة برحيل المجلس وتسليم السلطة لحكم مدني وتغيير شكل المحاكمات والسجون السبعة نجوم بحيث يشعر الشعب أنه أمام محاكمات حقيقية.. وزادت حدة الخلافات مع أحداث كثيرة دامية لم تكشف عنها سلطات التحقيق في أحداث موقعة الجمل وماسبيرو والبالون.. ومحمد محمود ومجلس الوزراء وأخيرا جاءت كارثة بورسعيد..
في ظل هذه الخلافات حدثت تجاوزات خطيرة في لغة الحوار والرفض والتظاهر استخدمت فيها كلمات وهتافات مبتذلة لا تتناسب مع جلال ثورة25 يناير وترفع شبابها.. هنا أيضا كانت هناك حقائق كثيرة غائبة عن فلول النظام السابق ودورها المريب في إفساد الثورة وتحريك جموع البلطجية في الشارع المصري طوال عام كامل مع ما يجري في سجن طره ومحاكمات التجمع الخامس وآلاف البلطجية الذين اعترف الكثيرون منهم بأموال حصلوا عليها من رموز النظام السابق وتمويل عمليات التظاهر حول وزارة الداخلية, كل هذه الأسباب أدت إلي ما يشبه الوقيعة بين المجلس العسكري وقوي الثورة من الشباب..
وهنا لابد أن نضع أيدينا علي مجموعة أسباب أخري تتعلق بشباب الثورة وشعورهم بالإحباط لأن الجميع تنكر لهم فلم يحصلوا علي شيء من ثمار ثورتهم بل انهم وصلوا إلي درجة من التشكيك والإنكار بل والكراهية أمام إعلام مضلل سعي لتشويه صورتهم أمام المجتمع ونجح في ذلك..
هنا ترك هؤلاء الشباب كل شيء واتجهوا إلي المجلس العسكري معتقدين أنه يتحمل مسئولية ذلك كله ابتداء بتهميش دورهم وهم صناع الثورة الحقيقيون وانتهاء بحصارهم من قوات الأمن في كل المواقع مع ظلال كثيفة تركها العهد البائد واتفاقات غير مؤكدة مع الإخوان المسلمين أكبر القوي السياسية في الشارع المصري بعد الثورة..
وهنا يجب أن نضع بعض النقاط التي تكشف لنا الحقيقة:
أولا: لا يستطيع أحد أن ينكر علي هؤلاء الشباب حقهم في الثورة التي أشعلوها.. وحقهم في المستقبل لأنه ملك لهم.. وحقهم في ان يعبروا عن رفضهم ومخاوفهم وإصرارهم علي التغيير ويجب أن يساندهم المجلس العسكري في تحقيق كل هذه الأهداف..
ثانيا: لا أعتقد أن حصار وزارة الداخلية ومحاولات اقتحام مبناها ومطاردة جنودها يمكن أن يحقق شيئا لشباب الثورة خاصة أن ميدان التحرير مازال رمزا لهذه الثورة والتظاهر أو الاعتصام فيه أمر لا يرفضه أحد بما في ذلك أجهزة الدولة المسئولة..
ثالثا: أن هناك قوي سياسية يجب أن تؤدي دورها في مساندة الثورة ومحاولة الخروج من هذا المأزق الخطير وفي مقدمتها مجلس الشعب أول ثمار هذه الثورة وليس هناك ما يمنع الآن من التنسيق بين ثوار التحرير والمجلس الجديد علي أساس أن الرؤي والأهداف والقضايا واحدة.. وإذا كان شباب الثورة يعتقدون أن المجلس العسكري قد تخلي عنهم فإن هذا الافتراض أمر غير محتمل في موقف مجلس الشعب..
رابعا: لابد أن تستعيد قوي الثورة ترابطها وتعود إلي الميدان وتنقي صفوفها من شوائب كثيرة وجموع فرضوا أنفسهم علي صفوف الثوار بل ان الأخطر من ذلك هو تسلل أعداد كبيرة من البلطجية الذين تجمعوا حول وزارة الداخلية واحرقوا مؤسسات الدولة وسرقوا المدارس وطاردوا الناس في أمنهم واستقرارهم..
خامسا: بقيت شهور قليلة علي تنفيذ وعود المجلس العسكري في الرحيل عن السلطة وتسليمها لرئيس مدني منتخب وسوف تبدأ الإجراءات التنفيذية لعمليات الترشح بعد أيام قليلة وعلينا أن ننتظر تنفيذ هذه الوعود..
.. ويومها سوف نحتفل جميعا شعبا وجيشا بنجاح ثورتنا.. ولن يطول بنا الانتظار قليل من الصبر.. وكثير من الايمان يتحقق الهدف.
..ويبقي الشعر
ركب الزمان يطوف في نظراتي
وتتوه في عمق المدي كلماتـــــــي
ماذا أقول ونور وجه المصطفـــي
كالصبـح أشرق في شواطيء ذاتي
ويطل وجهك في الحجيج كأنــــه
وجه السماء أضاء في جنباتــــــــي
يا سيد الخـلـق الرفيع تحيـــــة
من كل شوق فاض في عرفــــــات
طوفت في أرجاء مكة ساعيـــــا
وعلي مني ألقيت بالجمـــــــــــرات
ونظرت للأفق البعيد وحولــــه
تسري أمامك جنة الجنـــــــــــات
ووقفت تصرخ يا الهي أمتـــي..
فيجيب رب الخلق بالرحمـــــــات
لم تنس أمتك الحزينة كلمــــــا
هرعت جموع النــاس بالدعـــــوات
وسألت رب الكون هذا حالـهم
فقر.. وجوع.. وامتهان طغــــــــاة
يارب هذي أمتي مغلوبــــــــــة
ما بين حكم جــائــر.. وغــــــزاة
الركب ضل وشردته عواصـــف
بالعجز.. والطغيــان.. والنكبــات
جمعتهم في كل شــيء كلمــــــــا
نادي المــــؤذن داعيــا لصــــــــلاة
والآن صاروا في الحياة بلا هدي
تبدو عليهم سكــــرة الأمـــــــــوات
أنا في رحابك جئت أحمل أمــــة
ماتت علي أطلالهــا صرخــاتـــــــي
والحاقدون علي الضلال تجمعوا
والأمة الثكـلي فلــــول شتــــــــــات
في الكعبة الغراء وجهي شاخــص
تتسابق الصلــــوت في الصلـــــــوات
والناس في الحرم الشريف توافدوا
ضوء الوجوه يطــوف في الساحـــات
الله أكبر والحجيـــــــــــج مواكب
من كل لون قـــــادم ولغــــــــــــــات
الله وحدهم علي وحي الهـــــــدي
رغم اختلاف الجنــس واللهجــــــات
جاءوا فرادي يحملون ذنوبهــــــم
ويفيض صفــــح الله بالنفحـــــــــــات
حين استوي الرحمن فوق عبـــاده
العفو كان بدايـــــة الرحمــــــــــات
يارب فلتجعل نهاية رحلتــــــــي
عند السؤال شفاعتــــي وثباتــــــــــي
أنا في رحابك جئت أحمل توبتـي
خجلان من شططـــي ومن زلاتـــــي
أنت الغفور وكان ضعفي محنتي
وعذاب قلبي كان في هفواتـــــــــي
أشكو إليك الآن قلة حيلتـــــــي
وهوان عمري.. حيرتي وشتاتــي..
تتزاحم الأيام بين خواطـــــــري
ما بين ذنب حائـــر وعظــــــــــات
يارب سيرت القلوب مواطنــــــا للحب.. فاغفر يا كريــم هنـاتــي
قد كان ذنبي أن قلبي عاشـــــــق
فأضعت في عشق الجمال حياتــي
أنت الذي سطرت قلبي غنـــــوة للعاشقين.. وهذه مأســاتــي
اغفر ذنوب العشق أن جوانحــــي
ذابت من الأشــواق والعبــــــــرات
والآن جئتك بعد أن ضاق المــدي
واثــاقـلـت في رهبة خطواتــــــــي
ندما علي عمر تولي ضائعــــــا
أم خشية من طيف عمــــــــر آت
أسرفت في ذنبي وبابك رحمتــي
ولديك وحدك شاطيئ ونجاتـــــــي
من قصيدة على باب المصطفى 2010
بقلم فاروق جويدة
الأهرام 10 فبراير 2012 م.