حينما كان يدفعونه و هو على فراشه المتحرك كانت نواظرية عالقة بالسقف و قلبه يخفق كما لم يخفق من قبل و مرارة تسري بجسده ... مرارة لم يتجرعها قط طوال حياته ... مرارة مع شدة قسوتها فهى تشغله وتهون عليه الحرج الكبير الذى كان لابد لاى انسان فى مثل هذا الموقف و مهما كانت قوته او جبروته ان يشعر به ... عهدته صلباً لا ينكسر و اسدا لا ينهزم وكان يخيل لي ان امثاله لا يقهرون ... و الان ضريح الفراش يتصنع الصلابة ولكن هيهات ان يكون صلباً وبداخله حطام انسان ..
استقر الفراش داخل القفص ونظرات صاحب الفراش لم تستقر فى تلك الغرفة المكتظة بالناس حتى اصبحت اشبه الى علبة محكمة الغلق يبحث كل عنصرا مكدس فيها الظفر بحرية التنفس ... اما هو فلا يهتم بالتنفس ولا الحياه بقدر انه يحاول بشتى الطرق ان يتجنب النظر الى الناس كأنه يخشى ان تصيبه نظراتهم الشامتة و تقطع اخر خيط يربطه بالصلابة المصطنعه وينهار ويبكي و هو يفضل الموت على ان يرى الحاضرون دموعه... ومع ذلك هو لم ينفصل تماما عمن حوله و كان صوتهم سبيله الى الاتصال بهم برابطة المكان ... بدا صوت الحاضرين عاليا يصل الى اذنه و كأنه ازيز طائرات تحلق فوق المكان ... ربما جاءه الصوت كذلك لانه يعشق الطائرات ولما لا يعشقها وهى تسطر اجمل لحطات حياته وربما تكون هى السبب الوحيد الذى جعل القلة القليلة الغير منتفعة ان تتعاطف معه وان تجعل من انجازه الوحيد طوق نجاه من المشتقة التى تعد له ...هو لا يخاف المشنقة فلن تذيد جسده البالي الاماً ولا روحه الزائلة اياماً بقدر ما يخاف ان تتحقق المحكمة من جرائمه وان تثبتها عليه و يترك عارا وراءه و فضائح تملئ كتب التاريخ و يتناسون تضحيته الوحيده و تقديمه روحه فداءاً للوطن ... اه .. كم يحن قلبه الى تلك الذكريات الجميلة ايام كان عسكرى يحترمه الناس ويضعون فوق رأسه ورود الشرف والعزه فكم يتمنى ان تعود تلك الايام ويقف الزمان به ولا يتحرك او حتى يموت بطلاُ تظل ذكراه عطره طوال العمر.. وكم يلعن الان تلك الرغبات الدنيوية الدنيئة التى دفعته للولع بالشهرة والمال وبدلت الورود على الرؤوس الى كلابش تقبض يديه ...
دخل القاضى و تحول الصوت العالى الى همس احس معه بالانقباض و لما لاوهذا الهمس اللعين يذكره بهمس زوجته وولديه وتنابلة السلطان حينما كانو ا يقنعونه بأن شعبه اسعد شعوب الارض وان هذا الاصلح لذلك المنصب وان فلان لم يعد قادرا على القيام بمهامه وان الاصلح للبلاد ان يظل فكر الرئيس قائم وحكمه دائم حينما تنتقل السلطه الى ابنه و ما شيه اباه فما ظلم ... وهو كان يجيب سمعا وطاعا ... كم يتمنى الان ان يرجع به الزمان قليلا الى الوراء و يضرب بقولهم عرض الحائط ويزج بهم جميعا فى غياهب السجون ولا يعيش هذة اللحظة المرة اللحظة القاتلة اللعينة ويعيش لحظة رمضانية مباركة .. لحظات قد تبدو للجميع عادية فهم يصومون ويفطرون ولا شيء جديد ولكن هو مستعد الان ان يتنازل عما اكتنزه من حطام الدنيا وان يجلس على مائدة الافظار وحوله احفاده الكل منتظراً لحظة الافطار و بيده السبحة و هو يسبح بقلب تقى وروح ورعة وحينما تأتى لحظة الافطار وقبل ان يسكب العصير داخل فمه يتضرع الى الله ان يغفر له ذنوبه وان يحسن ختامه .... ولكن هيهات فقد تبددت الاحلام وضاعت الامانى حينما سمع صوت القاضى يناديه و هو يجيب حاضر يا فندم